المادة    
إن هذه الشعيرة العظمى، كلما أحييناها في الأمة أحياها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلنصبر على ذلك, ولنحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل ما يصبنا من الأذى؛ وكل ما نلاقيه من محن، وكل ما يعترضنا من فتن، ولنفترض أسوأ الأحوال دائماً، ولنفترض أننا في بيئة لا تقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إننا في خير لأننا نستطيع أن ندعو؛ وذلك أننا إذا ما قارنا أنفسنا بغيرنا؛ فسنجد أنه لا يوجد في هذا العالم دولة فيها هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا هذه البلاد، وأسوأ من ذلك أنه في تلك البلاد يعذب الإنسان، ويمتحن ويؤذى ويتابع وتكتب عليه التقارير؛ لأنه شوهد وضبط وهو يصلي الفجر عدة أيام في مسجد ما، وهذه مصيبة كبيرة جداً، فالواحد منا إذا رأى كثرة الشر والفساد والمعوقات والأعداء عليه أن يقول: أنا بخير بالنسبة إلى ذلك المسكين الذي توبع لأنه صلى، فأنا على الأقل أستطيع أن أقول: أيها الناس: صلوا.
فهذا الركن العظيم وهذه الشعيرة العظيمة عليكم أن تحافظوا عليها، فلا ينظر أحدنا إلى كثرة الشر؛ بل يقارن نفسه بمن هو دونه، فينظر إلى من هو أقل منه أمراً ونهياً عن المنكر فيحمد الله أنه في فسحة، وأنه يستطيع ذلك.
إذاً: فالإنسان في مثل هذه الأمور يصبِّر نفسه، ويعزيها، ويسليها، ولا شك أن العاقبة للمتقين، طال الزمان أو قصر، فالله تعالى يقول: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105].
فلا أحد كان يظن أيام الدولة العثمانية -وهي تحكم العالم شرقاً وغرباً حتى وصلت إلى بولندا- أن هذا الشيخ المسكين محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- الذي كان يذهب إلى الناس وإلى أهالي القرية وكلهم يطردونه وكان رجلاً وحيداً أن يكون له هذا الذكر الحسن.
فيقبله محمد بن سعود -رحمة الله عليه- ويتحالف معه في تلك المملكة وكانت كلها قرية الدرعية فقط، فما هي بالنسبة للدولة العثمانية أو بالنسبة لـنابليون وللعالم الذي كان بعد ذلك في أوروبا؟
ولكنها لما بدأت بالتوحيد الخالص لله، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مدها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأظهرها ونشرها، وأبقى له -كما ترون- الذكر الحسن في العالمين إلى هذا اليوم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وعادةً يكون انبلاج الفجر عند اشتداد الظلمة, فإذا رأيت الحق يحارب فاستبشر بأن النصر قريب؛ وإذا دارت المعركة بين الحق والباطل بوضوح فاعلم أن النصر قريب؛ لأن الحق هو دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهو مُتكفِّل به, ولن يُضيع عباده الصالحين أبدا, لكن المشكلة أنهم يأتون من قبل أنفسهم ومن تقصيرهم وتخاذلهم، فإن فعلوا ذلك فقد قال تعالى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38] أي: أنه سيأتي بغيرهم.
المهم: أن هذا الدين سيقوم, إن لم يقم على يديك فعلى يدي غيرك, وإن لم يُقَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على يد الهيئات؛ فسيخرج الله من أبناء المترفين وأبناء المجرمين من يقيمه، فتجد الأب يوزع الخمر والمخدرات، وابنه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر.
فهذا دين الله ولا يستطيع أحد أن يسده أبداً، وسيخرج الله له من يقيم الحجة على العالمين، لكن هذه فترات ابتلاء وامتحان لا بد أن تمر.
  1. صبر الدعاة هو من عزم الأمور

    كما ابتلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل أحد أكرم أو أمنَّ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأحظى عند الله من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
    فقد حوصر في الشعب هو وبنو هاشم، إلى درجة أنهم أكلوا أوراق الشجر من الجوع، وكان ذلك لما كتبت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على الكفر -والعياذ بالله- وعلى القطيعة؛ فكان لابد من الابتلاء.
    وماذا كان يوم أحد؟
    وكم كان يوم الأحزاب من الفتن والأهوال التي زلزلت قلوب المؤمنين؟
    ولكن في النهاية كان النصر المبين والحمد لله.
    فالصبر هو أساس النصر حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وقد سُئل الفارس الجاهلي المشهور عنترة بن شداد، فقيل له: كيف تغلب الخصوم إذا بارزتهم؟
    قال: كلما قالت نفسي: فر واهرب سيقتلك، قلت لها: اصبري قليلاً لعله يفر قبلي، وما أزال بها حتى يفر؛ سبحان الله! هكذا الإنسان كلما آتاه الله ابتلاء فليصبر قليلاً لعل الله أن يكفيه شره، ولعله هو الذي يذهب؛ وبهذه الطريقة يحصل النصر والله تعالى يقول: ((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) [آل عمران:186] أي: أن الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأهل العزائم معدودون، لكن هؤلاء الأفراد المعدودون هم الذي يعيدون المسيرة كلها؛ لأن هذا الفرد يضع العلامة على الطريق، وهو مثل الذي يتقدم تحت وابل من الرصاص من الأعداء لكي يضع علامة على الطريق ويموت، ثم يأتي الآخر ويضع علامة حتى يمشي عليها الناس، فهذا هو الابتلاء الذي يلاقيه الدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لأنهم يرسمون طريق العودة لهذه الأمة كلها، فإذا تحول الناس إلى الخير، برز النفاق، فالذي كان وقت الشدة لا يعرفك ولا تعرفه، بل وتخلى عنك، إذا أظهرك الله ومكنّ لك جاءك يقول: أتذكر يوم ساعدتك؟
    أتذكر كيف أعنتك يوم احتجتني؟
    وهكذا حتى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان النفاق على هذه الصورة، وهو كذلك في كل زمن.
    والمؤمنون يصبرون في أول الأمر حين يمتحنون ويؤذون, وقد لا يرون شيئاً من النصر؛ فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، الفتى الذي كان مترفاً في مكة ذهب إلى المدينة ودعا الأنصار إلى الله, فأسلموا حتى ما بقى بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام وقُرئَ فيه القرآن، يُقتل يوم أحد رضي الله عنه، فيأتي الصحابة الكرام وليس له إلا رداءً إن غُطي به رأسه بدت رجلاه, وإن غطيت به رجلاه بدا رأسه، ومات ولم ير شيئاً من النصر؛ لكن الذين عاشوا من بعده كـعتبة بن غزوان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم، فهؤلاء رأوا كيف أظهرهم الله على كسرى وقيصر وفتحوا العالم؛ لكن من مات في بداية الطريق لم يرَ شيئاً من ذلك ولا أدركه؛ هؤلاء غبطوا ذلك المتقدم، وقالوا: "نخشى أن تكون حسناتنا عجلت إلينا" فخافوا من أن ما أدركوه من الخير ومن النعمة، أن تكون حسناتهم عُجلت إليهم، أما مصعب وعبد الله بن رواحة وأمثالهم رضي الله عنهم فإنهم ماتوا قبل أن تفتح هذه البلاد، وقبل أن تكون تلك النعم.
    وتشتد الحاجة إلى الصبر كلما كانت الأمة في انحراف، وتحتاج لمن يؤسس لها الخير، ولا أرى أن الأمر قد يحتاج إلى أن أُذكَّر بواقع هذه الأمة الآن، فإنه شيء معرف.